الإيطوريون.. الشعب الغامض الذي حكم البقاع

بعض الباحثين والمؤرخين قد بدأوا يرجّحون أن المعبد الروماني في مجدل عنجر يخفي آثار مدينة خالكيس

الإيطوريون هم شعوب أتت الى منطقة البقاع في الفترة الهلنستية وهي الفترة التي أتت بعد وفاة إسكندر المقدوني عام 323 ق.م.، واستمرت حوالي 300 سنة في الشرق الأوسط.

-تنويه هناك ثلاث كتابات بالعربية للدلالة على هؤلاء الشعوب ( اليطوريون – الإيطوريون – الإيتوريون).-

ويعدّ هذا الشعب من الشعوب الأكثر غموضاً بين سكّان المنطقة، فقد ذكره المؤرخون القدماء وقال عنه أبناؤه إنهم قطّاع طرق ولصوص، والبعض وصفهم بإن هذا الشعب دائما ما كان يطالب بحكم ذاتي مما أدى الى بعض الصراعات الدموية.

ولكن بعض المؤرخين أكد أن الإيطوريون من الآراميين المهاجرين من سوريا الذين أمضوا الجزء الأول من تاريخهم في ترويع سكان سهل البقاع وسوريا، ولكن تطوروا مع مرور الزمن وأسسوا حكم وممالك خاصة بهم.

وكتب عنهم الدكتور فيليب حتي قائلا: “إن المملكة الإيطورية، هي عبارة عن قبائل عربية تُعرف بالإيطورية، استطاعت أن تؤسس لنفسها مُلكا مستقلا في سوريا، وخاصة في البقاع، عاصمتها عنجر. وكان الإيطوريون قبائل عربية، لغتهم الأرمية أو العربية، وكانت بلادهم تتسع أحيانا، فتشمل أقساما من لبنان الشرقي وحوران وفلسطين.

خارطة توضح تواجد الإيطوريون ولاحقاً أطلق الرومان إسم إيطوريا على هذه المنطقة.

أصل إسم “إيطوريا” Iturea:

قام بعض المؤرخين على تحديدهم بأن أصولهم عرب وفينيقيين، ,آخرون ارجعوا أصلهم من منطقة إيطوريا(ايتوريا) iturea وهي منطقة واقعة ببلاد ما بين النهرين وبالتحديد بنينوى.

والبعض من المؤرخين ربط الإيطوريون الى اسم إبن إسماعيل جيتور Jetur.

ولاحقاً أصبح الرومان يطلقون اسم إيطوريا على المنطقة التي تمتد من سوريا الى البقاع الى سلسلة جبال لبنان الغربية وصولاً الى هضبة الجولان جنوباً.

حددت الأعمال الأثرية الحديثة الفخار، الذي يُعرف الآن باسم “إيطوري” ، على مساحة واسعة تمتد من سهل البقاع، وتتوافق الاكتشافات مع النظرية القائلة بأن الإيطوريين كانوا قبائل آرامية جابت المنطقة لعدة قرون من أواخر الفترة الهلنستية حتى أوائل الحكم الروماني.

قدم سترابو عالم جغرافيا والفيلسوف والمؤرخ اليوناني ملخصاً عن الإيطوريون حيث قال:” إن في البلد الجبلي -الجز الخلفي من الساحر يسكنه شعوب تسمى بالأيطوريون ويقومون بالسطو على التجار في السهول وينهبون المزارعين.
واضاف سترابو حسب وصفهم “بلصوص الطرق السريعة” أرهبوا المناطق التي أطلق عليها اسم Syria Seconda و Phoenicia Libanesis في العصر الروماني، وفيما بعد حملت إسم ايطوريا.

الإيطورييون هم بالبداية كانو شعب رحل حتى أقاموا حكماً سمي بحكم “ايطوريا الرباعي” ولم يدم طويلاً رغم وجود نقش في قلعة بعلبك تدل على زينودروس الحاكم الأخير لحكم ايطوريا الرباعي.

تأسيس مملكة خالكيس:

مع وفاة زينودروس في 20 قبل الميلاد. انتهى الحكم الرباعي المستقل في إيطوريا ، وضمت أراضيهم تدريجياً إلى المقاطعات الرومانية تحت مسمى مملكة خالكيس.

أما أشهر ملوكهم فهو منايوس (معن) الذي يُعتقد، أنه كان أول من اعترف به السلوقيون، وفي هذه المرحلة توسعت مناطق سيطرة الإيطوريين كثيراً، نتيجة الحروب التي خاضوها، فوصلت هذه السيطرة إلى مناطق يبرود شرقاً، وحوران والجولان في الجنوب الشرقي، وكادوا أن يسيطروا عليها، لولا أن وضع الدمشقيون أنفسهم تحت حماية الأنباط. وحين دخل الرومان سورية، كانت سورية الجنوبية مقسمة بين الأنباط والإيطوريين، وكانت بينهم صدامات ونزاعات من أجل السيطرة والسيادة، وانتهت بخسارة الإيطوريين بعض ممتلكاتهم في الجولان. يوصف الايطوريون بأنهم مقاتلون شديدو المراس، ويرى بعض المؤرخين القدماء، أنه حين أعاد بومبيوس تنظيم هذه المنطقة إدارياً، عامل الإيطوريين معاملة خاصة، حتى إنه أعاد إليهم بعض الممتلكات، لكنه انتزع منهم مدينة واحدة هي قناتا (قنوات).

أسس الإيطوريون مملكة خالكيس التي امتدت من البحر الأبيض المتوسط وحتى قرب دمشق. وجعلوا كلاً من خالكيس عاصمة لهم وبعلبك مركزًا للعبادة. ويعتقد أن مؤسس المملكة كان بوتاليميوس ابن مينوس الذي كان سليلاً للإيطوريين.

سميت المملكة على إسم العاصمة خالكيس، وتعرف المدينة أيضًا باسم خالكيس ليبانوم وتقع في في منتصف الطريق بين بيريتوس (بيروت) ودمشق . ويعتقد أن مدينة عنجر في البقاع هي موقع عاصمة المملكة سابقًا. حيث تقع أطلال معبد روماني على بعد بضعة كيلومترات جنوب غرب عنجر بالقرب من مجدل عنجر.

وفي بلدة مجدل عنجر معبد روماني. الأهالي اعتادوا تسمية المعبد بالقلعة أو الحصن. هذه القلعة تقع على تل مرتفع يطل على اجزاء واسعة من سهل البقاع الأوسط والجنوبي وعلى مدخل وادي الحرير المفضي إلى دمشق.

بغض النظر عن أن القلعة تعرضت عبر العقود الماضية للنهب والسرقة على فترات متلاحقة، فسرق الكثير من النواويس وقطع الفسيفساء، إضافةً إلى قطع أخرى من الأواني والفخاريّات والجرار الزجاجية والعملات القديمة وقطع ذهبية.

عُثر في القلعة على بعض المسكوكات من أيام ليسيانوس بن بطليموس بن مينا الأيطوري إضافةً إلى نقود ظهرت عليها صور للعديد من الأمراء والملوك، ومنها للملك اغريبا، وتماثيل كثيرة لرؤوس نساء ورجال. وكان بعض الباحثين والمؤرخين قد بدأوا يرجّحون أن المعبد الروماني في مجدل عنجر يخفي آثار مدينة خالكيس.

وخلال عهد ألكسندر يانيوس الذي كان ملك يهودا الحشموني، اضطر بوتاليميوس إلى التنازل عن جزء من أراضيه للحشمونيون. وقد عرفت هذه المنطقة لاحقًا باسم يطوريا بمعناها العرقي الذي غطى مساحة كبيرة. في عام 64 ق.م.، قام بوتاليميوس برشوة الجنرال الروماني بومبيوس الكبير حتى يمتنع عن ضم مملكته ويسمح له بالاستمرار بحكمه. كما أعاد بومبيوس الكبير لبوتاليميوس الأراضي التي خسرها أمام يانيوس عندما وضع حدًا للدولة الحشمونية المستقلة عام 63 قبل الميلاد.

كانت خالكيس دولة تابعة للحكم الروماني خلال الفترة التي تبقت من حكم بوتاليميوس. في العام 40 قبل الميلاد، خلفه ابنه ليسانياس الذي ساند جهود الملك الحشموني أنتيغونوس الثاني ماتاثياس في الاستيلاء على عرش يهودا في العامين 42 و 40 قبل الميلاد عن طريق التحالف معه ضد العميل الروماني الملك هيرودس والذي حل مكانه مؤقتًا في محاولته الثانية المدعومة من قبل البارثيين. أدى تعاطف ليسانياس ضد الرومان إلى إعدامه من قبل ماركوس أنطونيوس في عام 33 قبل الميلاد وبتحريض من الملكة كليوباترا السابعة حاكمة مصر والتي كانت تريد السيطرة على أراضيه.

وعندما تحولت إيطوريا إلى ولاية رومانية، انخرط شبابهم في الجيش الروماني، وحاربوا في صفوفه في شمال أفريقيا. اتخذ الحكام الإيطوريون لقب الكاهن الأعلى، والحاكم وهو لقب مزدوج ديني ومدني في آن واحد. وكانت لهم عاصمتان، واحدة دينية هي بعلبك، التي اشتهرت بمعبد الشمس. وعُرفت هذه المدينة في المصادر الإغريقية باسم هليوبوليس. أما العاصمة الأخرى فكانت تلك التي عرفها المؤرخ بوليبيوس باسم جرا والتي عرفها المؤرخون العرب باسم عين الجر، وتُعرف اليوم باسم عنجر.

على الرغم من منح ماركوس أنطونيوس أرض ليسانياس لكليوباترا، إلا أن مملكة خالكيس استمرت باقية بعد تلك التي حلت بها وبمدينة قويلبة. قامت كليوبترا بمنحها زينودوروس الذي يعتقد أنه ابن ليسانياس. وبعد انتحارها في العام 30 قبل الميلاد، سمح الإمبراطور أغسطس لزينودوروس في البداية بأن يحكمها، ولكن تم عزله في العام 23 قبل الميلاد بسبب قيامه بشن غارات على المناطق المجاورة له. منح أغسطس بعد ذلك بعض أو كل أراضيه لهيرودس بما فيها يطوريا وباتنيا وتراكونايتس وأورانايتس. لا يعرف سوى القليل عن خالكيس في الوقت الذي تلا وفاة ليسانياس، ويعتقد أنه قد تم ضمها إلى المقاطعة الرومانية، في حين يبدو أن قويلبة قد بقيت مستقلة لبعض الوقت.

قام بعض الحكام الإيطوريون بسك عملات تحمل صورهم

الإنقسامات:
بقيت المناطق التي استسلمت لهيرودس محكومة من قبله وقبل أفراد أسرته الذين سيطروا على أهم المناطق في المملكة سابقًا. بعد وفاة هيرودس، أصبحت كل من قالونايتس وأورانايتس باتنيا وتراكونايتس تحت حكم فيليب الذي كان أحد أبنائه. ويعتقد أن قويلبة قد ذهبت لحكم ليسانياس آخر ورد ذكره في إنجيل لوقا (3:1) كحاكم لقويلبة في زمن يوحنا المعمدان. ومن المحتمل أن يكون ذكر ليسانياس الذي ورد في إنجيل لوقا إشارة عفا عليها الزمان لليسانياس الذي قتله ماركوس أنطونيوس.

في العام 34 الميلادي، قام الإمبراطور كاليغولا بإعطاء هيرودس أغريباس الأول مناطق فيليب السابقة (قالونايتس وأورانايتس باتنيا وتراكونايتس)، وأعطى قويلبة لليسانياس. وقد ازداد نطاق حكمه في وقت لاحق في عام 32 الميلادي بفضل المنطقتين غير اليطوريتيين الجليل وبيرية واللتان كان يحكمهما في السابق هيرودوس أنتيباس. وقام كلوديوس خليفه كاليغولا بضم يهودا والسامرية في العام 41 بعد الميلاد. وحكم أغريبا كل هذه المناطق حتى وفاته في العام 44 ميلادي.

وفي العام 39 الميلادي، منح كاليغولا مقاطعة يطوريا إلى سوموس الذي حكمها حتى وفاته في العام 49 ميلادي عندما تم دمج مملكته مع محافظة سوريا.

في العام 41 الميلادي، قام هيرودس بناءً على طلب من شقيقه أغريباس بالحصول على خالكيس، وسمح لكلوديوس بلقب باسيليوس. حكم الملك هيرودس خالكيس حتى وفاته في عام 48 ميلادي وليحصل الملك أغريباس الثاني على مملكته.

أجبر أغريباس الثاني على التخلي عن خالكيس في عام 53 ميلادي، ولكن كلوديوس في المقابل عينه حاكمًا بلقب ملك على الأراضي الأربع التي كانت لفيليب في السابق، بالإضافة إلى قويلبة التي كانت لليسانياس. في العام 55 ميلادي، ضم الإمبراطور نيرون لسيطرته كلاً من مدن طبرية والمجدل في الجليل وليفياس، بالإضافة إلى أربعة عشر قرية بالقرب منها في بيرية.

في وقت لاحق من العام 57 الميلادي، أعطى أغريباس الثاني خالكيس إلى ابن عمه أريستوبولوس. وبعد وفاة أريستوبولوس في عام 92 ميلادي، تم ضم خالكيس إلى محافظة سوريا.

وفقًا لفوتيوس، فقد توفي أغريباس في سن السبعين في السنة الثالثة من حكم الإمبراطور تراجان في عام 100 ميلادي. ولكن ما ورد عن جوزيفوس بالإضافة إلى النقش المعاصر من مملكته يضع هذا التاريخ محل شك كبير. يفيد الإجماع العلمي الحديث أنه توفي قبل الأعوام 93/94، وأصبحت مناطق حكمه بعد وفاته تحت الحكم المباشر لروما.

وبهكذا انتهى حكم الإيطوريين في المنطقة بعد حوالي 300 عاماً، ولكن بما لا شك فيه أن بعض سكان أهل البقاع والمنطقة لحد الآن هم من سلالة الشعب الايطوري، رغم التغيير الديموغرافي الذي حصل بعد تلك الفترة والذي غير الكثير من معالم البشر الذين سكنوا هذه الارض.